فصل: فَصْلٌ: شَرَائِطُ وُجُوبِ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: شَرَائِطُ وُجُوبِ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ:

وَأَمَّا شَرَائِطُ وُجُوبِ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ فَأَنْوَاعٌ: مِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمَوْجُودُ قَتِيلًا وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بِهِ أَثَرُ الْقَتْلِ مِنْ جِرَاحَةٍ أَوْ أَثَرِ ضَرْبٍ أَوْ خَنْقٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَلَا قَسَامَةَ فِيهِ، وَلَا دِيَةَ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ بِهِ أَثَرُ الْقَتْلِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ، فَلَا يَجِبُ فِيهِ شَيْءٌ، فَإِذَا اُحْتُمِلَ أَنَّهُ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ وَاحْتُمِلَ أَنَّهُ قُتِلَ احْتِمَالًا عَلَى السَّوَاءِ فَلَا يَجِبُ شَيْءٌ بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ؛ وَلِهَذَا لَوْ وُجِدَ فِي الْمَعْرَكَةِ، وَلَمْ يَكُنْ بِهِ أَثَرُ الْقَتْلِ لَمْ يَكُنْ شَهِيدًا حَتَّى يُغَسَّلَ، وَعَلَى هَذَا قَالُوا: إذَا وُجِدَ وَالدَّمُ يَخْرُجُ مِنْ فَمِهِ أَوْ مِنْ أَنْفِهِ أَوْ مِنْ دُبُرِهِ أَوْ ذَكَرِهِ لَا شَيْءَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الدَّمَ يَخْرُجُ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ عَادَةً بِدُونِ الضَّرْبِ بِسَبَبِ الْقَيْءِ وَالرُّعَافِ وَعَارِضٍ آخَرَ فَلَا يُعْرَفُ كَوْنُهُ قَتِيلًا، وَإِنْ كَانَ يَخْرُجُ مِنْ عَيْنِهِ أَوْ أُذُنِهِ فَفِيهِ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ؛ لِأَنَّ الدَّمَ لَا يَخْرُجُ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ عَادَةً فَكَانَ الْخُرُوجُ مُضَافًا إلَى ضَرْبٍ حَادِثٍ، فَكَانَ قَتِيلًا؛ وَلِهَذَا لَوْ وُجِدَ هَكَذَا فِي الْمَعْرَكَةِ كَانَ شَهِيدًا، وَفِي الْأَوَّلِ لَا يَكُونُ شَهِيدًا، وَلَوْ مَرَّ فِي مَحَلَّةٍ فَأَصَابَهُ سَيْفٌ أَوْ خَنْجَرٌ فَجَرَحَهُ وَلَا يَدْرِي مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ أَصَابَهُ فَحُمِلَ إلَى أَهْلِهِ فَمَاتَ مِنْ تِلْكَ الْجِرَاحَةِ، فَإِنْ كَانَ لَمْ يَزَلْ صَاحِبَ فِرَاشٍ حَتَّى مَاتَ- فَعَلَى عَاقِلَةِ الْقَبِيلَةِ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبَ فِرَاشٍ فَلَا قَسَامَةَ، وَلَا دِيَةَ وَهَذَا قَوْلُهُمَا.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ- رَحِمَهُ اللَّهُ-: لَا قَسَامَةَ فِيهِ وَلَا ضَمَانَ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى- رَحِمَهُ اللَّهُ- وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّ الْمَجْرُوحَ إذَا لَمْ يَمُتْ فِي الْمَحَلَّةِ كَانَ الْحَاصِلُ فِي الْمَحَلَّةِ مَا دُونَ النَّفْسِ وَلَا قَسَامَةَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ كَمَا لَوْ وُجِدَ مَقْطُوعَ الْيَدِ فِي الْمَحَلَّةِ؛ وَلِهَذَا لَوْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُ الْفِرَاشِ فَلَا شَيْءَ فِيهِ كَذَا هَذَا.
(وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- أَنَّهُ إذَا لَمْ يَبْرَأْ عَنْ الْجِرَاحَةِ.
وَكَانَ لَمْ يَزَلْ صَاحِبَ فِرَاشٍ حَتَّى مَاتَ عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ مِنْ الْجِرَاحَةِ فَعُلِمَ أَنَّ الْجِرَاحَةَ حَصَلَتْ قَتْلًا مِنْ حِينِ وُجُودِهَا، فَكَانَ قَتِيلًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَأَنَّهُ مَاتَ فِي الْمَحَلَّةِ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ صَاحِبُ فِرَاشٍ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَصِرْ صَاحِبَ فِرَاشٍ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ الْمَوْتَ حَصَلَ مِنْ الْجِرَاحَةِ فَلَمْ يُوجَدْ قَتِيلًا فِي الْمَحَلَّةِ فَلَا يَثْبُتُ حُكْمَهُ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا وُجِدَ مِنْ الْقَتِيلِ أَكْثَرُ بَدَنِهِ أَنَّ فِيهِ الْقَسَامَةَ وَالدِّيَةَ؛ لِأَنَّهُ يُسَمَّى قَتِيلًا؛ لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ، وَلَوْ وُجِدَ عُضْوٌ مِنْ أَعْضَائِهِ كَالْيَدِ وَالرِّجْلِ أَوْ وُجِدَ أَقَلُّ مِنْ نِصْفِ الْبَدَنِ فَلَا قَسَامَةَ فِيهِ وَلَا دِيَةَ؛ لِأَنَّ الْأَقَلَّ مِنْ النِّصْفِ لَا يُسَمَّى قَتِيلًا وَلِأَنَّا لَوْ أَوْجَبْنَا فِي هَذَا الْقَدْرِ الْقَسَامَةَ لَأَوْجَبْنَا فِي الْبَاقِي قَسَامَةً أُخْرَى فَيُؤَدِّي إلَى اجْتِمَاعِ قَسَامَتَيْنِ فِي نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَإِنْ وُجِدَ النِّصْفُ، فَإِنْ كَانَ النِّصْفُ الَّذِي فِيهِ الرَّأْسُ- فَفِيهِ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ، وَإِنْ كَانَ النِّصْفُ الْآخَرَ فَلَا قَسَامَةَ فِيهِ وَلَا دِيَةَ؛ لِأَنَّ الرَّأْسَ إذَا كَانَ مَعَهُ يُسَمَّى قَتِيلًا وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَا يُسَمَّى قَتِيلًا؛ لِأَنَّ الرَّأْسَ أَصْلٌ وَلِأَنَّا لَوْ أَوْجَبْنَا فِي النِّصْفِ الَّذِي لَا رَأْسَ فِيهِ لَلَزِمَنَا الْإِيجَابُ فِي النِّصْفِ الَّذِي مَعَهُ الرَّأْسُ فَيُؤَدِّي إلَى مَا قُلْنَا، وَإِنْ وُجِدَ الرَّأْسُ وَحْدَهُ فَلَا قَسَامَةَ وَلَا دِيَةَ؛ لِأَنَّ الرَّأْسَ وَحْدَهُ لَا يُسَمَّى قَتِيلًا، وَإِنْ وُجِدَ النِّصْفُ مَشْقُوقًا فَلَا شَيْءَ فِيهِ؛ لِأَنَّ النِّصْفَ الْمَشْقُوقَ لَا يُسَمَّى قَتِيلًا، وَلِأَنَّ فِي اعْتِبَارِهِ إيجَابَ الْقَسَامَتَيْنِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَنَظِيرُ هَذَا مَا قُلْنَا فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ: إذَا وُجِدَ أَكْثَرُ الْبَدَنِ أَوْ أَقَلُّهُ أَوْ نِصْفُهُ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ.
(وَمِنْهَا): أَنْ لَا يُعْلَمَ قَاتِلُهُ، فَإِنْ عُلِمَ فَلَا قَسَامَةَ فِيهِ، وَلَكِنْ يَجِبُ الْقِصَاصُ إنْ كَانَ قَتِيلًا يُوجِبُ الْقِصَاصَ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ إنْ كَانَ قَتِيلًا يُوجِبُ الدِّيَةَ وَقَدْ ذَكَرْنَا جَمِيعَ ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ.
(وَمِنْهَا): أَنْ يَكُونَ الْقَتِيلُ مِنْ بَنِي آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَلَا قَسَامَةَ فِي بَهِيمَةٍ وُجِدَتْ فِي مَحَلَّةِ قَوْمٍ وَلَا غُرْمَ فِيهَا؛ لِأَنَّ لُزُومَ الْقَسَامَةَ فِي نَفْسِهَا أَمْرٌ ثَبَتَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ تَكْرَارَ الْيَمِينِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، وَاعْتِبَارُ عَدَدِ الْخَمْسِينَ غَيْرُ مَعْقُولٍ؛ وَلِهَذَا لَمْ يُعْتَبَرْ فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى، وَكَذَا وُجُوبُ الدِّيَةِ مَعَهَا؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ فِي الشَّرْعِ جُعِلَتْ دَافِعَةً لِلِاسْتِحْقَاقِ بِنَفْسِهَا كَمَا فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا ذَلِكَ بِالنُّصُوصِ وَالْإِجْمَاعِ فِي بَنِي آدَمَ فَبَقِيَ الْأَمْرُ فِيمَا وَرَاءَهُمْ عَلَى الْأَصْلِ؛ وَلِهَذَا لَمْ تَجِبْ الْقَسَامَةُ وَالْغَرَامَةُ فِي سَائِرِ الْأَمْوَالِ، كَذَا فِي الْبَهَائِمِ، وَتَجِبُ فِي الْعَبْدِ الْقَسَامَةُ وَالْقِيمَةُ إذَا وُجِدَ قَتِيلًا فِي غَيْرِ مِلْكِ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ آدَمِيٌّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ وَلِهَذَا يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ فِي الْعَمْدِ، وَالْكَفَّارَةُ فِي الْخَطَأِ، وَتَغْرَمُ الْعَاقِلَةُ قِيمَتَهُ فِي الْخَطَأِ، وَهَذَا عَلَى أَصْلِهِمَا، فَأَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ فَلَا قَسَامَةَ فِيهِ وَلَا دِيَةَ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ عِنْدَهُ مَضْمُونٌ بِالْخَطَأِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ لَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ آدَمِيٌّ؛ وَلِهَذَا قَالَ: تَجِبُ قِيمَتُهُ فِي الْقَتْلِ الْخَطَأِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ، وَلَا تَتَحَمَّلُهَا الْعَاقِلَةُ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْبَهِيمَةِ.
وَكَذَا الْجَوَابُ فِي الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُكَاتَبِ وَالْمَأْذُونِ لِمَا قُلْنَا وَسَوَاءٌ كَانَ الْقَتِيلُ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا عَاقِلًا أَوْ مَجْنُونًا بَالِغًا أَوْ صَبِيًّا ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَطْلَقَ الْقَضِيَّةَ بِالْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ فِي مُطْلَقِ قَتِيلٍ أُخْبِرَ بِهِ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ وَلَمْ يَسْتَفْسِرْ، وَلَوْ كَانَ الْحُكْمُ يَخْتَلِفُ لَاسْتَفْسَرُوا؛ لِأَنَّ دَمَ هَؤُلَاءِ مَضْمُونٌ بِالْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ، فَيَكُونُ مَضْمُونًا بِالْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ، وَسَوَاءٌ وُجِدَ الْمُسْلِمُ قَتِيلًا فِي مَحَلَّةِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ فِي مَحَلَّةٍ أَهْلِ الذِّمَّةِ؛ لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ الْأَنْصَارِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وُجِدَ قَتِيلًا فِي قَلِيبٍ مِنْ قَلِيبِ خَيْبَرَ وَأَوْجَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَسَامَةَ عَلَى الْيَهُودِ.
وَكَذَا الذِّمِّيُّ؛ لِأَنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ، وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَيْهِمْ إلَّا مَا نُصَّ بِدَلِيلٍ.
(وَمِنْهَا): الدَّعْوَى مِنْ أَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ؛ لِأَنَّ الْقَسَامَةَ يَمِينٌ، وَالْيَمِينُ لَا تَجِبُ بِدُونِ الدَّعْوَى كَمَا فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى، وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ.
(وَمِنْهَا:) إنْكَارُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ وَظِيفَةُ الْمُنْكِرِ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» جَعَلَ جِنْسَ الْيَمِينِ عَلَى الْمُنْكِرِ فَيَنْفِي وُجُوبَهَا عَلَى غَيْرِ الْمُنْكِرِ.
(وَمِنْهَا): الْمُطَالَبَةُ بِالْقَسَامَةِ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ حَقُّ الْمُدَّعِي، وَحَقُّ الْإِنْسَانِ يُوَفَّى عِنْدَ طَلَبِهِ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَيْمَانِ؛ وَلِهَذَا كَانَ الِاخْتِيَارُ فِي حَالِ الْقَسَامَةِ إلَى أَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ؛ لِأَنَّ الْأَيْمَانَ حَقُّهُمْ فَلَهُمْ أَنْ يَخْتَارُوا مَنْ يَتَّهِمُونَهُ وَيَسْتَحْلِفُونَ صَالِحِي الْعَشِيرَةَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ لَا يَحْلِفُونَ كَذِبًا، وَلَوْ طُولِبَ مَنْ عَلَيْهِ الْقَسَامَةُ بِهَا فَنَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ حُبِسَ حَتَّى يَحْلِفَ أَوْ يُقِرَّ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ فِي بَابِ الْقَسَامَةِ حَقٌّ مَقْصُودٌ بِنَفْسِهِ لَا أَنَّهُ وَسِيلَةٌ إلَى الْمَقْصُودِ، وَهُوَ الدِّيَةُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُجْمَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدِّيَةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْحَارِثُ بْنُ الْأَزْمَعِ لِسَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَبْذُلُ أَيْمَانَنَا وَأَمْوَالَنَا؟ فَقَالَ: نَعَمْ وَرُوِيَ أَنَّ الْحَارِثَ قَالَ: أَمَا تُجْزِي هَذِهِ عَنْ هَذِهِ؟ فَقَالَ: لَا.
وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: فَبِمَ يَبْطُلُ دَمُ صَاحِبِكُمْ؟ فَإِذَا كَانَتْ مَقْصُودَةً بِنَفْسِهَا فَمَنْ امْتَنَعَ عَنْ أَدَاءِ حَقٍّ مَقْصُودٍ بِنَفْسِهِ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْأَدَاءِ يُجْبَرُ عَلَيْهِ بِالْحَبْسِ، كَمَنْ امْتَنَعَ عَنْ قَضَاءِ دَيْنٍ عَلَيْهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقَضَاءِ بِخِلَافِ الْيَمِينِ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مَقْصُودَةً بِنَفْسِهَا بَلْ هِيَ وَسِيلَةٌ إلَى الْمَقْصُودِ، وَهُوَ الْمَالُ الْمُدَّعَى.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا؟ بَلْ إذَا حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَرِئَ، أَوْ لَا تَرَى أَنَّهُ إذَا لَمْ يَحْلِفْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَلَمْ يُقِرَّ وَبَذَلَ الْمَالَ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ؟ وَهَاهُنَا لَوْ لَمْ يَحْلِفُوا، وَلَمْ يُقِرُّوا، وَبَذَلُوا الدِّيَةَ لَا تَسْقُطُ عَنْهُمْ الْقَسَامَةُ فَدَلَّ أَنَّهَا مَقْصُودَةٌ بِنَفْسِهَا فَيُجْبَرُونَ عَلَيْهَا بِالْحَبْسِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُمْ لَا يُحْبَسُونَ، وَالدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- وَذَكَرَ فِيهِ أَيْضًا أَنَّ الْإِمَامَ إذَا أَيِسَ عَنْ الْحَلْفِ وَسَأَلَهُ الْأَوْلِيَاءُ أَنْ يُغَرِّمَهُمْ الدِّيَةَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ بِالدِّيَةِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(وَمِنْهَا): أَنْ يَكُونَ الْمَوْضِعُ الَّذِي وُجِدَ فِيهِ الْقَتِيلِ مِلْكًا لِأَحَدٍ أَوْ فِي يَدِ أَحَدٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِلْكًا لِأَحَدٍ وَلَا فِي يَدِ أَحَدٍ أَصْلًا فَلَا قَسَامَةَ فِيهِ وَلَا دِيَةَ، وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ أَحَدٍ، يَدُ الْعُمُومِ، لَا يَدُ الْخُصُوصِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ التَّصَرُّفُ فِيهِ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ لَا لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَلَا لِجَمَاعَةٍ يُحْصَوْنَ- لَا تَجِبُ الْقَسَامَةُ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقَسَامَةَ أَوْ الدِّيَةَ إنَّمَا تَجِبُ بِتَرْكِ الْحِفْظِ اللَّازِمِ عَلَى مَا نَذْكُرُ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِلْكَ أَحَدٍ، وَلَا فِي يَدِ أَحَدٍ أَصْلًا لَا يَلْزَمُ أَحَدًا حِفْظُهُ- فَلَا تَجِبُ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ، وَإِذَا كَانَ فِي يَدِ الْعَامَّةِ فَحِفْظُهُ عَلَى الْعَامَّةِ لَكِنْ لَا سَبِيلَ إلَى إيجَابِ الْقَسَامَةِ عَلَى الْكُلِّ لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ مِنْ الْكُلِّ، وَأَمْكَنَ إيجَابُ الدِّيَةِ عَلَى الْكُلِّ؛ لِإِمْكَانِ الِاسْتِيفَاءِ مِنْهُمْ بِالْأَخْذِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ مَالَ بَيْتِ الْمَالِ مَالُهُمْ، فَكَانَ الْأَخْذُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ اسْتِيفَاءً مِنْهُمْ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي فَلَاةٍ مِنْ الْأَرْضِ لَيْسَ بِمِلْكٍ لِأَحَدٍ أَنَّهُ لَا قَسَامَةَ فِيهِ وَلَا دِيَةَ إذَا كَانَ بِحَيْثُ لَا يُسْمَعُ الصَّوْتُ مِنْ الْأَمْصَارِ، وَلَا مِنْ قَرْيَةٍ مِنْ الْقُرَى، فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يُسْمَعُ الصَّوْتُ تَجِبُ الْقَسَامَةُ عَلَى أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ إلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ أَقْرَبَ إلَى الْقُرَى، فَعَلَى أَقْرَبِ الْقُرَى، وَإِنْ كَانَ أَقْرَبَ إلَى الْمِصْرِ- فَعَلَى أَقْرَبِ مَحَالِّ الْمِصْرِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ بِحَيْثُ لَا يُسْمَعُ الصَّوْتُ وَالْغَوْثُ لَا يُلْحَقُ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ، فَلَمْ يَكُنْ الْمَوْضِعُ فِي يَدِ أَحَدٍ، فَلَمْ يُوجَدْ الْقَتِيلُ فِي مِلْكِ أَحَدٍ، وَلَا فِي يَدِ أَحَدٍ أَصْلًا فَلَا تَجِبُ فِيهِ الْقَسَامَةُ، وَلَا الدِّيَةُ، وَإِذَا كَانَتْ بِحَيْثُ يُسْمَعُ الصَّوْتُ وَالْغَوْثُ يُلْحَقُ، فَكَانَ مِنْ تَوَابِعِ أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ إلَيْهِ، وَقَدْ وَرَدَ بِاعْتِبَارِ الْقُرْبِ حَدِيثٌ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَضَى بِهِ أَيْضًا سَيِّدُنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى مَا نَذْكُرُ، وَلَوْ وُجِدَ فِي نَهْرٍ عَظِيمٍ كَدِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ وَسَيْحُونُ وَنَحْوِهَا، فَإِنْ كَانَ النَّهْرُ يَجْرِي بِهِ فَلَا قَسَامَةَ وَلَا دِيَةَ؛ لِأَنَّ النَّهْرَ الْعَظِيمَ لَيْسَ مِلْكًا لِأَحَدٍ وَلَا فِي يَدِ أَحَدٍ.
وَقَالَ زُفَرُ- رَحِمَهُ اللَّهُ-: تَجِبُ عَلَى أَقْرَبِ الْقُرَى مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ كَمَا إذَا وُجِدَ عَلَى الدَّابَّةِ، وَهِيَ تَسِيرُ، وَلَيْسَتْ فِي يَدِ أَحَدٍ، وَهَذَا الْقِيَاسُ لَيْسَ بِسَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي تَسِيرُ فِيهِ الدَّابَّةُ تَابِعٌ لِأَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ إلَيْهِ، فَكَانَ فِي يَدِ أَهْلِهِ بِخِلَافِ النَّهْرِ الْكَبِيرِ فَإِنَّهُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ يَدِ أَحَدٍ لَا بِالْأَصَالَةِ وَلَا بِالتَّبَعِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ النَّهْرُ لَا يَجْرِي بِهِ وَلَكِنَّهُ كَانَ مُحْتَسَبًا فِي الشَّطِّ أَوْ مَرْبُوطًا عَلَى الشَّطِّ أَوْ مُلْقَى عَلَى الشَّطِّ، فَإِنْ كَانَ الشَّطُّ مِلْكًا فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْأَرْضِ الْمَمْلُوكَةِ أَوْ الدَّارِ الْمَمْلُوكَةِ، إذَا وُجِدَ فِيهَا قَتِيلٌ، وَسَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِلْكًا لِأَحَدٍ فَعَلَى أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ إلَيْهِ مِنْ الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى مِنْ حَيْثُ يُسْمَعُ الصَّوْتُ: الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ؛ لِأَنَّهُمْ يَسْتَقُونَ مِنْهُ الْمَاءَ وَيُورِدُونَ دَوَابَّهُمْ؛ فَكَانَ لَهُمْ تَصَرُّفٌ فِي الشَّطِّ؛ فَكَانَ الشَّطُّ فِي أَيْدِيهِمْ.
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ فِي الْجَزِيرَةِ فَعَلَى أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ إلَى الْجَزِيرَةِ مِنْ الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى مِنْ حَيْثُ يُسْمَعُ الصَّوْتُ: الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ؛ لِأَنَّ الْجَزِيرَةَ تَكُونُ فِي تَصَرُّفِهِمْ، فَكَانَتْ فِي أَيْدِيهِمْ، وَإِنْ وُجِدَ فِي نَهْرٍ صَغِيرٍ مِمَّا يُقْضَى فِيهِ بِالشُّفْعَةِ لِلشُّرَكَاءِ فِي الشُّرْبِ فَفِيهِ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى أَهْلِ النَّهْرِ؛ لِأَنَّ النَّهْرَ مَمْلُوكٌ لَهُمْ وَسَوَاءٌ كَانَ الْقَتِيلُ مُحْتَبَسًا أَوْ مَرْبُوطًا عَلَى الشَّطِّ أَوْ كَانَ النَّهْرُ يَجْرِي بِهِ بِخِلَافِ النَّهْرِ الْكَبِيرِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مِلْكًا لِأَرْبَابِهِ- كَانَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَجْرِي بِهِ مَمْلُوكًا لَهُمْ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ النَّهْرُ الْكَبِيرُ، وَلَا قَسَامَةَ فِي قَتِيلٍ يُوجَدُ فِي مَسْجِدِ الْجَامِعِ، وَلَا فِي شَوَارِعِ الْعَامَّةِ، وَلَا فِي جُسُورِ الْعَامَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ الْمِلْكُ، وَلَا يَدُ الْخُصُوصِ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ تَدْبِيرَ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ وَمَصْلَحَتَهَا إلَى الْعَامَّةِ فَكَانَ حِفْظُهَا عَلَيْهِمْ فَإِذَا قَصَّرُوا ضَمَّنُوا بَيْتَ الْمَالِ مَالَهُمْ فَيُؤْخَذُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ.
وَكَذَلِكَ لَا قَسَامَةَ فِي قَتِيلٍ فِي سُوقِ الْعَامَّةِ، وَهِيَ الْأَسْوَاقُ الَّتِي لَيْسَتْ بِمَمْلُوكَةٍ، وَهِيَ سُوقُ السُّلْطَانِ؛ لِأَنَّهَا إذَا لَمْ تَكُنْ مَمْلُوكَةً وَلَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَيْهَا يَدُ الْخُصُوصِ كَانَتْ كَالشَّوَارِعِ الْعَامَّةِ؛ لِأَنَّ سُوقَ السُّلْطَانِ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا تَجِبُ الْقَسَامَةُ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ؛ لِأَنَّ حِفْظَهَا وَالتَّدْبِيرَ فِيهَا إلَى جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ فَيَضْمَنُونَ بِالتَّقْصِيرِ؛ فَبَيْتُ الْمَالِ مَالُ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ.
وَكَذَا إذَا وُجِدَ فِي مَسْجِدِ جَمَاعَتِهِمْ، وَلَا قَسَامَةَ، وَالدِّيَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لِأَحَدٍ فِيهِ، وَلَا يَدُ الْخُصُوصِ، وَيَدُ الْعُمُومِ تُوجِبُ الدِّيَةَ لَا الْقَسَامَةَ؛ لِمَا بَيَّنَّا، فَإِنْ كَانَ السَّوْقُ مِلْكًا تَجِبُ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ لَكِنْ عَلَى مِنْ تَجِبُ فِيهِ اخْتِلَافٌ نَذْكُرهُ فِي مَوْضِعه إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا قَسَامَةَ فِي قَتِيلٍ يُوجَدُ فِي السِّجْنِ لِانْعِدَامِ الْمِلْكِ وَيَدِ الْخُصُوصِ؛ لِأَنَّهُ لَا تَصَرُّفَ لِأَهْلِ السِّجْنِ فِي السِّجْنِ؛ لِكَوْنِهِمْ مَقْهُورِينَ فِيهِ وَتَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ يَدَ الْعُمُومِ ثَابِتَةٌ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ مَنْفَعَةَ السِّجْنِ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُ بُنِيَ لِاسْتِيفَاءِ حُقُوقِهِمْ، وَدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُمْ، وَيَدُ الْعُمُومِ تُوجِبُ الدِّيَةَ لَا الْقَسَامَةَ، وَهَذَا قَوْلُهُمَا وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ- رَحِمَهُ اللَّهُ-: تَجِبُ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى أَهْلِ السِّجْنِ؛ لِأَنَّ لَهُمْ ضَرْبَ تَصَرُّفٍ فِي السِّجْنِ فَكَأَنَّ لَهُمْ يَدًا عَلَى السِّجْنِ فَعَلَيْهِمْ حِفْظُهُ.
(وَمِنْهَا) أَنْ لَا يَكُونَ الْقَتِيلُ مِلْكًا لِصَاحِبِ الْمِلْكِ الَّذِي وُجِدَ فِيهِ فَلَا قَسَامَةَ، وَلَا دِيَةَ فِي قِنٍّ أَوْ مُدَبَّرٍ أَوْ أُمِّ وَلَدٍ أَوْ مُكَاتَبٍ أَوْ مَأْذُونٍ وُجِدَ قَتِيلًا فِي دَارِ مَوْلَاهُ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ وَوُجُودُهُ فِي دَارِهِ قَتِيلًا، كَمُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ مِنْهُ، وَقَتْلُ الْمَمْلُوكِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ ضَمَانٌ إلَّا أَنَّ فِي الْمُكَاتَبِ تَجِبُ عَلَى الْمَوْلَى قِيمَتُهُ؛ لِأَنَّهُ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى كَسْبِهِ وَأَرْشُ جِنَايَتِهِ حُرٌّ؛ فَكَانَ كَسْبُهُ وَأَرْشُهُ لَهُ، وَالْمَوْلَى فِيهِ كَالْأَجْنَبِيِّ، وَلَا تَعْقِلَهُ الْعَاقِلَةُ؛ لِأَنَّهُ إذًا صَارَ مَضْمُونًا بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ، وَالْعَقْدُ ثَبَتَ فِي حَقِّ الْمَوْلَى وَالْمُكَاتَبِ لَا فِي حَقِّ الْعَاقِلَةِ، وَفِي الْمَأْذُونِ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِغُرَمَائِهِ إنْ كَانَ لَهُ دَيْنٌ؛ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِمَالِيَّتِهِ، وَقَدْ اسْتَهْلَكَ حَقَّهُمْ بِالْقَتْلِ بِاسْتِهْلَاكِ مَحَلِّ الْحَقِّ فَيَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِغُرَمَائِهِ، وَتَكُونُ حَالَّةً فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ ضَمَانَ النَّفْسِ؛ لِأَنَّ نَفْسَهُ مِلْكُ الْمَوْلَى بَلْ هَذَا ضَمَانُ الْمَالِ لِتَعَلُّقِ الْغُرَمَاءُ بِمَالِيَّتِهِ، فَكَانَ هَذَا ضَمَانَ الِاسْتِهْلَاكِ، فَتَكُونُ فِي مَالِهِ حَالَّةً لَا مُؤَجَّلَةً كَمَا لَوْ اسْتَهْلَكَهُ بِالْإِعْتَاقِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ- لَا شَيْءَ فِيهِ.
وَكَذَلِكَ إنْ قَتَلَهُ عَمْدًا.
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْعَبْدُ جَنَى جِنَايَةً ثُمَّ وُجِدَ قَتِيلًا فِي دَارِ مَوْلَاهُ فَعَلَى الْمَوْلَى قِيمَتُهُ حَالَّةً وَكَذَلِكَ إنْ قَتَلَهُ خَطَأً وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِجِنَايَتِهِ لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ وُجِدَ الْعَبْدُ الرَّهْنُ قَتِيلًا فِي دَارِ الرَّاهِنِ أَوْ الْمُرْتَهِنِ، فَإِنْ وُجِدَ قَتِيلًا فِي دَارِ الرَّاهِنِ فَلَا قَسَامَةَ، وَالْقِيمَةُ عَلَى رَبِّ الدَّارِ دُونَ الْعَاقِلَةِ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ وَقَتْلُ الْإِنْسَانِ مِلْكَ نَفْسِهِ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا وَجَبَ الضَّمَانُ بِعَقْدِ الرَّهْنِ، وَالْعَقْدُ ثَبَتَ فِي حَقِّ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ لَا فِي حَقِّ الْعَاقِلَةِ فَلَا يَلْزَمُ حُكْمَهُ الْعَاقِلَةُ، وَإِنْ وُجِدَ فِي دَارِ الْمُرْتَهِنِ فَالْقَسَامَةُ وَالْقِيمَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا الضَّمَانَ لَا يَجِبُ بِالْعَقْدِ وَإِنَّمَا يَجِبُ بِالْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ وُجُودَهُ فِي دَارِهِ قَتِيلًا كَمُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ مِنْهُ، كَعَبْدٍ لَيْسَ بِرَهْنٍ وُجِدَ فِي دَارِهِ قَتِيلًا، وَثَمَّةَ الْقَسَامَةُ وَالْقِيمَةُ عَلَيْهِ، كَذَا هَاهُنَا.

.فَصْلٌ: بَيَانُ سَبَبِ وُجُوبِ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ:

(وَأَمَّا) بَيَانُ سَبَبِ وُجُوبِ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ فَنَقُولُ: سَبَبُ وُجُوبِهِمَا هُوَ التَّقْصِيرُ فِي النُّصْرَةِ وَحِفْظُ الْمَوْضِعِ الَّذِي وُجِدَ فِيهِ الْقَتِيلُ مِمَّنْ وَجَبَ عَلَيْهِ النُّصْرَةُ وَالْحِفْظُ؛ لِأَنَّهُ إذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْحِفْظُ فَلَمْ يُحْفَظْ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْحِفْظِ صَارَ مُقَصِّرًا بِتَرْكِ الْحِفْظِ الْوَاجِبِ فَيُؤَاخَذُ بِالتَّقْصِيرِ زَجْرًا عَنْ ذَلِكَ وَحَمْلًا عَلَى تَحْصِيلِ الْوَاجِبِ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ أَخَصَّ بِالنُّصْرَةِ وَالْحِفْظ كَانَ أَوْلَى بِتَحَمُّلِ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةَ؛ لِأَنَّهُ أَوْلَى بِالْحِفْظِ فَكَانَ التَّقْصِيرُ مِنْهُ أَبْلَغَ، وَلِأَنَّهُ إذَا اخْتَصَّ بِالْمَوْضِعِ مِلْكًا أَوْ يَدًا بِالتَّصَرُّفِ كَانَتْ مَنْفَعَتُهُ لَهُ، فَكَانَتْ النُّصْرَةُ عَلَيْهِ؛ إذْ الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} وَلِأَنَّ الْقَتِيلَ إذَا وُجِدَ فِي مَوْضِعٍ اُخْتُصَّ بِهِ وَاحِدٌ أَوْ جَمَاعَةٌ إمَّا بِالْمِلْكِ أَوْ بِالْيَدِ، وَهُوَ التَّصَرُّفُ فِيهِ فَيُتَّهَمُونَ أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ، فَالشَّرْعُ أَلْزَمَهُمْ الْقَسَامَةَ دَفْعًا لِلتُّهْمَةِ وَالدِّيَةِ لِوُجُودِ الْقَتِيلِ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ حِينَمَا قِيلَ: أَنَبْذُلُ أَمْوَالَنَا وَأَيْمَانَنَا؟ فَقَالَ: أَمَّا أَيْمَانُكُمْ فَلِحَقْنِ دِمَائِكُمْ، وَأَمَّا أَمْوَالُكُمْ فَلِوُجُودِ الْقَتِيلِ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَنَقُولُ الْقَتِيلُ إذَا وُجِدَ فِي الْمَحَلَّةِ- فَالْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ لِلْأَحَادِيثِ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَلِأَنَّ حَفِظَ الْمَحَلَّةِ عَلَيْهِمْ، وَنَفْعُ وِلَايَةِ التَّصَرُّفِ فِي الْمَحَلَّةِ عَائِدٌ إلَيْهِمْ، وَهُمْ الْمُتَّهَمُونَ فِي قَتْلِهِ؛ فَكَانَتْ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَيْهِمْ.
وَكَذَا إذَا وُجِدَ فِي مَسْجِدِ الْمَحَلَّةِ أَوْ فِي طَرِيقِ الْمَحَلَّةِ؛ لِمَا قُلْنَا فَيَحْلِفُ مِنْهُمْ خَمْسُونَ، فَإِنْ لَمْ يَكْمُلْ الْعَدَدُ خَمْسِينَ رَجُلًا تُكَرَّرُ الْأَيْمَانُ عَلَيْهِمْ حَتَّى تَكْمُلَ خَمْسِينَ يَمِينًا؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ حَلَّفَ رِجَالَ الْقَسَامَةِ فَكَانُوا تِسْعَةً وَأَرْبَعِينَ رَجُلًا، فَأَخَذَ مِنْهُمْ وَاحِدًا، وَكَرَّرَ عَلَيْهِ الْيَمِينَ حَتَّى كَمُلَتْ خَمْسِينَ يَمِينًا.
وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ خَالَفَهُ أَحَدٌ؛ فَيَكُونُ إجْمَاعًا، وَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَيْمَانَ حَقُّ وَلِي الْقَتِيلِ، فَلَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَهَا مِمَّنْ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهَا مِنْهُ، فَإِنْ أَمْكَنَ الِاسْتِيفَاءُ مِنْ عَدَدِ الرِّجَالِ الْخَمْسِينَ اسْتَوْفَى، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ- يَسْتَوْفِي عَدَدَ الْأَيْمَانِ الَّتِي هِيَ حَقُّهُ، وَإِنْ كَانَ الْعَدَدُ كَامِلًا فَأَرَادَ الْوَلِيُّ أَنْ يُكَرِّرَ الْيَمِينَ عَلَى بَعْضِهِمْ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ- رَحِمَهُ اللَّهُ- لِأَنَّ مَوْضُوعَ هَذِهِ الْأَيْمَانِ عَلَى عَدَدِ الْخَمْسِينَ فِي الْأَصْلِ لَا عَلَى وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا التَّكْرَارُ عَلَى وَاحِدٍ لِضَرُورَةِ نُقْصَانِ الْعَدَدِ، وَلَا ضَرُورَةَ عِنْدَ الْكَمَالِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْمَحَلَّةِ قَبَائِلُ شَتَّى، فَإِنْ كَانَ فِيهَا أَهْلُ الْخُطَّةِ وَالْمُشْتَرُونَ- فَالْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى أَهْلِ الْخُطَّةِ مَا بَقِيَ مِنْهُمْ وَاحِدٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ- عَلَيْهِمَا الرَّحْمَةُ- وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ- رَحِمَهُ اللَّهُ-: عَلَيْهِمْ وَعَلَى الْمُشْتَرِينَ جَمِيعًا.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ: أَنَّ الْوُجُوبَ عَلَى أَهْلِ الْخُطَّةِ بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ، وَالْمِلْكُ ثَابِتٌ لِلْمُشْتَرِينَ؛ وَلِهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْخُطَّةِ أَحَدٌ كَانَتْ الْقَسَامَةُ عَلَى الْمُشْتَرِينَ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا: أَنَّ أَهْلَ الْخُطَّةِ أُصُولٌ فِي الْمِلْكِ؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْمِلْكِ ثَبَتَ لَهُمْ، وَإِنَّمَا انْتَقَلَ عَنْهُمْ إلَى الْمُشْتَرِينَ، فَكَانُوا أَخَصَّ بِنُصْرَةِ الْمَحَلَّةِ وَحِفْظِهَا مِنْ الْمُشْتَرِينَ، فَكَانُوا أَوْلَى بِإِيجَابِ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ عَلَيْهِمْ وَكَانَ الْمُشْتَرِي بَيْنَهُمْ كَالْأَجْنَبِيِّ فَمَا بَقِيَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ لَا يُنْتَقَلُ إلَى الْمُشْتَرِي، وَقِيلَ: إنَّ أَبَا حَنِيفَةَ بَنَى الْجَوَابَ عَلَى مَا شَاهَدَ بِالْكُوفَةِ وَكَانَ تَدْبِيرُ أَمْرِ الْمَحَلَّةِ فِيهَا إلَى أَهْلِ الْخُطَّةِ، وَأَبُو يُوسُفَ رَأَى التَّدْبِيرَ إلَى الْأَشْرَفِ وَمِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْخُطَّةِ أَوْ لَا، فَبَنَى الْجَوَابَ عَلَى ذَلِكَ فَعَلَى هَذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا خِلَافٌ فِي الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَوَّلَ عَلَى مَعْنَى الْحِفْظِ وَالنُّصْرَةِ، فَإِنْ فُقِدَ أَهْلُ الْخُطَّةِ.
وَكَانَ فِي الْمَحَلَّةِ مُلَّاكٌ وَسُكَّانٌ- فَالدِّيَةُ عَلَى الْمُلَّاكِ لَا عَلَى السَّكَّانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ: عَلَيْهِمْ جَمِيعًا لَهُ مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «أَوْجَبَ الْقَسَامَةَ عَلَى أَهْلِ خَيْبَرَ وَكَانُوا سُكَّانًا» وَلِأَنَّ لِلسَّاكِنِ اخْتِصَاصًا بِالدَّارِ يَدًا كَمَا أَنَّ لِلْمَالِكِ اخْتِصَاصًا بِهَا مِلْكًا، وَيَدُ الْخُصُوصِ تَكْفِي لِوُجُوبِ الْقَسَامَةِ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا: أَنَّ الْمَالِكَ أَخَصُّ بِحِفْظِ الْمَوْضِعِ وَنُصْرَتِهِ مِنْ السُّكَّانِ؛ لِأَنَّ اخْتِصَاصَهُ اخْتِصَاصُ مِلْكٍ، وَأَنَّهُ أَقْوَى مِنْ اخْتِصَاصِ الْيَدِ.
أَلَا يُرَى أَنَّ السُّكَّانَ يَسْكُنُونَ زَمَانًا ثُمَّ يَنْتَقِلُونَ.
وَأَمَّا إيجَابُ الْقَسَامَةِ عَلَى يَهُودِ خَيْبَرَ فَمَمْنُوعٌ أَنَّهُمْ كَانُوا سُكَّانًا، بَلْ كَانُوا مُلَّاكًا فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَقَرَّهُمْ عَلَى أَمْلَاكِهِمْ وَوَضَعَ الْجِزْيَةَ عَلَى رُءُوسِهِمْ، وَمَا كَانَ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ كَانَ يُؤْخَذُ عَلَى وَجْهِ الْجِزْيَةِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْأُجْرَةِ.
وَلَوْ وُجِدَ قَتِيلٌ فِي سَفِينَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ رُكَّابٌ- فَالْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى أَرْبَابِ السَّفِينَةِ، وَعَلَى مَنْ يَمُدُّهَا مِمَّنْ يَمْلِكُهَا أَوْ لَا يَمْلِكُهَا، وَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ فِيهَا رُكَّابٌ فَعَلَيْهِمْ جَمِيعًا، وَهَذَا فِي الظَّاهِرِ يُؤَيِّدُ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ فِي إيجَابِهِ الْقَسَامَةَ وَالدِّيَةَ عَلَى الْمُلَّاكِ وَالسَّكَّانِ جَمِيعًا، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ- يُفَرِّقَانِ بَيْنَ السَّفِينَةِ وَالْمَحَلَّةِ؛ لِأَنَّ السَّفِينَةَ تَنْقُلُ وَتُحَوِّلُ مِنْ مَكَان إلَى مَكَان فَتُعْتَبَرُ فِيهَا الْيَدُ دُونَ الْمِلْكِ كَالدَّابَّةِ إذَا وُجِدَ عَلَيْهَا قَتِيلٌ، بِخِلَافِ الدَّارِ فَإِنَّهَا لَا تَحْتَمِلُ النَّقْلَ وَالتَّحْوِيلَ، فَيُعْتَبَرُ فِيهَا الْمِلْكُ وَالتَّحْوِيلُ مَا أَمْكَنَ لَا الْيَدُ.
وَكَذَلِكَ الْعَجَلَةُ حُكْمُهَا حُكْمُ السَّفِينَةِ؛ لِأَنَّهَا تَنْقُلُ وَتُحَوِّلُ، وَلَوْ وُجِدَ الْقَتِيلُ مَعَهُ رَجُلٌ يَحْمِلُهُ عَلَى ظَهْرِهِ فَعَلَيْهِ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ؛ لِأَنَّ الْقَتِيلَ فِي يَدِهِ، وَلَوْ وُجِدَ جَرِيحٌ مَعَهُ بِهِ رَمَقٌ يَحْمِلُهُ حَتَّى أَتَى بِهِ أَهْلَهُ فَمَكَثَ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ ثُمَّ مَاتَ لَا يَضْمَنُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: وَفِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَضْمَنُ.
(وَجْهُ) الْقِيَاسِ: أَنَّ الْحَامِلَ قَدْ ثَبَتَتْ يَدُهُ عَلَيْهِ مَجْرُوحًا فَإِذَا مَاتَ مِنْ الْجُرْحِ فَكَأَنَّهُ مَاتَ فِي يَدِهِ وَهَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى مَنْ جُرِحَ فِي قَبِيلَةٍ فَتَحَامَلَ إلَى قَبِيلَةٍ أُخْرَى فَمَاتَ فِيهِمْ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ.
وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ عَلَى دَابَّةٍ، وَلَهَا سَائِقٌ أَوْ قَائِدٌ أَوْ عَلَيْهَا رَاكِبٌ- فَعَلَيْهِ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ؛ لِأَنَّهُ فِي يَدِهِ، وَإِنْ اجْتَمَعَ السَّائِقُ وَالْقَائِدُ وَالرَّاكِبُ- فَعَلَيْهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْقَتِيلَ فِي أَيْدِيهِمْ، فَصَارَ كَأَنَّهُ وُجِدَ فِي دَارِهِمْ، وَإِنْ وُجِدَ عَلَى دَابَّةٍ لَا سَائِقَ لَهَا وَلَا قَائِدَ وَلَا رَاكِبَ عَلَيْهَا، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ مِلْكًا لِأَحَدٍ فَالْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى الْمَالِكِ، وَإِنْ كَانَ لَا مَالِكَ لَهُ فَعَلَى أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ إلَيْهِ مِنْ حَيْثُ يُسْمَعُ الصَّوْتُ مِنْ الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى، وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَا يُسْمَعُ- فَهُوَ هَدَرٌ لِمَا قُلْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ، فَإِنْ وُجِدَتْ الدَّابَّةُ فِي مَحَلَّةٍ- فَعَلَى أَهْلِ تِلْكَ الْمَحَلَّةِ.
وَكَذَلِكَ إذَا وُجِدَ فِي فَلَاةٍ مِنْ الْأَرْضِ أَنَّهُ يُنْظَرُ إنْ كَانَ ذَلِكَ الْمَكَانُ الَّذِي وُجِدَ فِيهِ مِلْكًا لِإِنْسَانٍ- فَالْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالِكٌ فَعَلَى أَقْرَبِ الْمَوَاضِع إلَيْهِ مِنْ الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى، إذَا كَانَتْ بِحَيْثُ يَبْلُغُ الصَّوْتُ مِنْهَا إلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَا يَبْلُغُ- فَهُوَ هَدَرٌ لِمَا قُلْنَا، وَذُكِرَ فِي الْأَصْلِ فِي قَتِيلٍ وُجِدَ بَيْنَ قَرْيَتَيْنِ أَنَّهُ يُضَاف إلَى أَقْرَبِهِمَا لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ «النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمَرَ بِأَنْ يُوَزَّعَ بَيْنَ قَرْيَتَيْنِ فِي قَتِيلٍ وُجِدَ بَيْنَهُمَا» وَكَذَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَتِيلٍ وُجِدَ بَيْنَ وَدَاعَةَ وَأَرْحَبَ، وَكَتَبَ إلَيْهِ عَامِلُهُ بِذَلِكَ، فَكَتَبَ إلَيْهِ سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ قِسْ بَيْنَ الْقَرْيَتَيْنِ فَأَيُّهُمَا كَانَ أَقْرَبَ فَأَلْزِمْهُمْ فَوَجَدَ الْقَتِيلَ إلَى وَدَاعَةَ أَقْرَبَ فَأُلْزِمُوا الْقَسَامَةَ وَالدِّيَةَ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا كَانَ بِحَيْثُ يَبْلُغُ الصَّوْتُ إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي وُجِدَ فِيهِ الْقَتِيلُ، كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ حَكَاهُ الْكَرْخِيُّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- وَالْفِقْهُ مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ.
وَكَذَا إذَا وُجِدَ بَيْنَ سِكَّتَيْنِ- فَالْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى أَقْرَبِهِمَا، فَإِنْ وُجِدَ فِي الْمُعَسْكَرِ فِي فَلَاةٍ مِنْ الْأَرْضِ، فَإِنْ كَانَتْ الْأَرْضُ الَّتِي وُجِدَ فِيهَا لَهَا أَرْبَابٌ- فَالْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى أَرْبَابِ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُمْ أَخَصُّ بِنُصْرَةِ الْمَوْضِعِ وَحِفْظِهِ، فَكَانُوا أَوْلَى بِإِيجَابِ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا عَلَى أَصْلِهِمَا؛ لِأَنَّ الْمُعَسْكَرَ كَالسُّكَّانِ، وَالْقَسَامَةُ عَلَى الْمُلَّاكِ لَا عَلَى السَّكَّانِ عَلَى أَصْلِهِمَا (فَأَمَّا) عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- فَالْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا، وَإِنْ يَكُنْ فِي مِلْكِ أَحَدٍ بِأَنْ وُجِدَ فِي خِبَاءٍ أَوْ فُسْطَاطٍ- فَعَلَى مَنْ يَسْكُنْ الْخِبَاءَ وَالْفُسْطَاطَ، وَعَلَى عَوَاقِلِهِمْ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْخَيْمَةِ خُصَّ بِمَوْضِعِ الْخَيْمَةِ مِنْ أَهْلِ الْعَسْكَرِ بِمَنْزِلَةِ صَاحِبِ الدَّارِ مَعَ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ ثُمَّ الْقَسَامَةُ عَلَى صَاحِبِ الدَّارِ إذَا وُجِدَ فِيهَا قَتِيلٌ لَا عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ، كَذَا هَاهُنَا.
وَإِنْ وُجِدَ خَارِجًا مِنْ الْفُسْطَاطِ وَالْخِبَاءِ فَعَلَى أَقْرَبِ الْأَخْبِيَةِ وَالْفَسَاطِيطِ مِنْهُمْ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ، كَذَا ذُكِرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ الْأَقْرَبَ أَوْلَى بِإِيجَابِ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إذَا وُجِدَ بَيْنَ الْخِيَامِ فَالْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى جَمَاعَتِهِمْ، كَالْقَتِيلِ يُوجَدُ فِي الْمَحَلَّةِ جَعَلَ الْخِيَامَ الْمَحْمُولَةَ كَالْمَحَلَّةِ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْعَسْكَرُ لَقُوا عَدُوًّا، فَإِنْ كَانُوا قَدْ لَقُوا عَدُوًّا فَقَاتَلُوا- فَلَا قَسَامَةَ، وَلَا دِيَةَ فِي قَتِيلٍ يُوجَدُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا لَقُوا عَدُوًّا وَقَاتَلُوا فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْعَدُوَّ قَتَلَهُ لَا الْمُسْلِمُونَ؛ إذْ الْمُسْلِمُونَ لَا يَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلَوْ وُجِدَ قَتِيلٌ فِي أَرْضِ رَجُلٍ إلَى جَانِبِ قَرْيَةٍ لَيْسَ صَاحِبُ الْأَرْضِ مِنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ- فَالْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ لَا عَلَى أَهْلِ الْقَرْيَةِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْأَرْضِ أَخَصُّ بِنُصْرَةِ أَرْضِهِ وَحِفْظِهَا مِنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ، فَكَانَ أَوْلَى بِإِيجَابِ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ عَلَيْهِ، كَصَاحِبِ الدَّارِ مَعَ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ.
لَوْ وُجِدَ قَتِيلٌ فِي دَارِ إنْسَانٍ، وَصَاحِبُ الدَّارِ مِنْ أَهْلِ الْقَسَامَةِ- فَالْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى صَاحِبِ الدَّارِ، وَعَلَى عَاقِلَتِهِ كَذَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ مَا إذَا كَانَتْ الْعَاقِلَةُ حُضُورًا أَوْ غُيَّبًا، وَذُكِرَ فِي اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ- أَنَّ الْقَسَامَةَ عَلَى رَبِّ الدَّارِ وَعَلَى عَاقِلَتِهِ حُضُورًا كَانُوا أَوْ غُيَّبًا.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ- رَحِمَهُ اللَّهُ-: لَا قَسَامَةَ عَلَى الْعَاقِلَةِ، هَكَذَا ذَكَرَ فِيهِ وَقَالَ الْكَرْخِيُّ- رَحِمَهُ اللَّهُ-: إنْ كَانَتْ الْعَاقِلَةُ حُضُورًا فِي الْمِصْرِ دَخَلُوا فِي الْقَسَامَةِ، وَإِنْ كَانَتْ غَائِبَةً فَالْقَسَامَةُ عَلَى صَاحِبِ الدَّارِ تُكَرَّرُ عَلَيْهِ الْأَيْمَانُ، وَالدِّيَةُ عَلَيْهِ وَعَلَى عَاقِلَتِهِ أَمَّا دُخُولُ الْعَاقِلَةِ فِي الْقَسَامَةِ، إذَا كَانُوا حُضُورًا- فَهُوَ قَوْلُهُمَا، وَظَاهِرُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ: لَا قَسَامَةَ عَلَى الْعَاقِلَةِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَدْخُلُوا فِي الْقَسَامَةِ.
(وَجْهُ) قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّهُ لَمَّا لَزِمَتْهُمْ الدِّيَةُ لَزِمَتْهُمْ الْقَسَامَةُ، كَأَهْلِ الْمَحَلَّةِ، وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ صَاحِبَ الدَّارِ أَخَصُّ بِالنُّصْرَةِ وَبِالْوِلَايَةِ وَالتُّهْمَةِ فَلَا يُشَارِكَهُ الْعَاقِلَةُ كَمَا لَا يُشَارِكُ أَهْلَ الْمَحَلَّةِ غَيْرُهُمْ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا: أَنَّ الْعَاقِلَةَ إذَا كَانُوا حُضُورًا يَلْزَمُهُمْ حِفْظُ الدَّارِ وَنُصْرَتُهَا كَمَا يَلْزَمُ صَاحِبُ الدَّارِ.
وَكَذَا يُتَّهَمُونَ بِالْقَتْلِ كَمَا يُتَّهَمُ صَاحِبُ الدَّارِ فَقَدْ شَارَكُوا فِي سَبَبِ وُجُوبِ الْقَسَامَةِ فَيُشَارِكُونَهُ فِي الْقَسَامَةِ أَيْضًا وَبِهَذَا يَقَعُ الْفَرْقُ بَيْنَ حَالِ الْحُضُورِ وَالْغَيْبَةِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- لِأَنَّ مَعْنَى التُّهْمَةِ ظَاهِرُ الِانْتِفَاءِ مِنْ الْغَيْبِ.
وَكَذَا مَعْنَى النُّصْرَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ نُصْرَةٌ مِنْ جِهَتِهِمْ إلَّا أَنَّهُ تَجِبُ عَلَيْهِمْ الدِّيَةُ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الدِّيَةَ عَلَى الْعَاقِلَةِ لَا يَتَعَلَّقُ بِالتُّهْمَةِ؛ فَإِنَّهُمْ يَتَحَمَّلُونَ عَنْ الْقَاتِلِ الْمُعَيَّنِ، إذَا كَانَ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ خَاطِئًا وَسَوَاءٌ كَانَتْ الدَّارُ فِيهَا سَاكِنٌ أَوْ كَانَتْ مُفَرَّغَةٌ مُغْلَقَةٌ فَوُجِدَ فِيهَا قَتِيلٌ- فَعَلَى رَبِّ الدَّارِ وَعَلَى عَاقِلَتِهِ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ وَأَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُمَا يَعْتَبِرَانِ الْمِلْكَ دُونَ السُّكْنَى؛ فَكَانَ وُجُودُ السُّكْنَى فِيهَا وَالْعَدَمُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ.
(وَأَمَّا) أَبُو يُوسُفَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- فَإِنَّمَا يُوجِبُ عَلَى السَّاكِنِ لِاخْتِصَاصِهِ بِالدَّارِ يَدًا وَلَمْ يُوجَدْ هَاهُنَا، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمِلْكُ الَّذِي وُجِدَ فِيهِ الْقَتِيلُ خَاصًّا أَوْ مُشْتَرَكًا- فَالْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى أَرْبَابِ الْمِلْكِ؛ لِمَا قُلْنَا، وَسَوَاءٌ اتَّفَقَ قَدْرُ أَنْصِبَاءِ الشُّرَكَاءِ أَوْ اخْتَلَفَ فَالْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ حَتَّى لَوْ كَانَتْ الدَّارُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ لِأَحَدِهِمَا الثُّلُثَانِ وَلِلْآخِرِ الثُّلُثَ- فَالْقَسَامَةُ عَلَيْهِمَا وَعَلَى عَاقِلَتِهِمَا نِصْفَانِ، وَيُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ عَدَدُ الرُّءُوسِ لَا قَدْرُ الْأَنْصِبَاءِ كَمَا فِي الشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ حِفْظَ الدَّارِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَالْحِفْظُ لَا يَخْتَلِفُ؛ وَلِهَذَا تَسَاوَيَا فِي اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ لِدَفْعِ ضَرَرِ الدَّخِيلِ، وَإِنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ قَدْرِ الْمِلْكِ، وَذُكِرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِيمَنْ بَاعَ دَارًا، وُجِدَ فِيهَا قَتِيلٌ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهَا الْمُشْتَرِي: أَنَّ الْقَسَامَةَ وَالدِّيَةَ عَلَى الْبَائِعِ، إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْبَيْع خِيَارٌ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ خِيَارٌ- فَعَلَى مَنْ الدَّارُ فِي يَدِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ: الدِّيَةُ عَلَى مَالِكِ الدَّارِ إنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَيْعِ خِيَارٌ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ خِيَارٌ فَعَلَى مَنْ تَصِيرُ الدَّارَ لَهُ وَعِنْدَ زُفَرَ- رَحِمَهُ اللَّهُ-: الدِّيَةُ عَلَى الْمُشْتَرِي إلَّا أَنْ يَكُونَ لِلْبَائِعِ خِيَارٌ، فَتَكُونَ الدِّيَةُ عَلَيْهِ.
(وَجْهُ) قَوْلِ زُفَرَ: أَنَّ الْمِلْكَ لِلْمُشْتَرِي إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ خِيَارٌ.
وَكَذَا إذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ خِيَارَ الْمُشْتَرِي لَا يَمْنَعُ دُخُولَ الْمَبِيعِ فِي مِلْكِهِ عِنْدَهُ، فَإِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ- فَالْمِلْكُ لَهُ؛ لِأَنَّ خِيَارَهُ يَمْنَعُ زَوَالَ الْمَبِيعِ عَنْ مِلْكِهِ بِلَا خِلَافٍ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا: أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ خِيَارٌ فَالْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي، وَإِنَّمَا لِلْبَائِعِ صُورَةُ يَدٍ مِنْ غَيْرِ تَصَرُّفٍ، وَصُورَةُ الْيَدِ لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي الْقَسَامَةِ، كَيَدِ الْمُودِعِ، فَكَانَتْ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَإِذَا كَانَ فِيهِ خِيَارٌ فَعَلَى مَنْ تَصِيرُ الدَّارَ لَهُ؛ لِأَنَّهَا إذَا صَارَتْ لِلْبَائِعِ- فَقَدْ انْفَسَخَ الْبَيْعُ، وَجُعِلَ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ، وَإِنْ صَارَتْ لِلْمُشْتَرِي- فَقَدْ انْبَرَمَ الْبَيْعَ وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ مَلَكهَا بِالْعَقْدِ مِنْ حِينِ وُجُودِهِ.
(وَأَمَّا) تَصْحِيحُ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَمُشْكِلٌ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَبِرُ الْمِلْكَ فِيمَا يَحْتَمِلُ النَّقْلَ وَالتَّحْوِيلَ لَا الْيَدَ، وَإِنْ كَانَتْ الْيَدُ يَدَ تَصَرُّفٍ كَيَدِ السَّاكِنِ، وَالثَّابِتُ لِلْبَائِعِ صُورَةُ يَدٍ مِنْ غَيْرِ تَصَرُّفٍ، فَأَوْلَى أَنْ لَا يَعْتَبِرَهُ، لَكِنْ لَا إشْكَالَ فِي الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ بِتَرْكِ الْحِفْظِ، وَالْحِفْظُ بِالْيَدِ حَقِيقَةً، إلَّا أَنَّهُ يُضَافُ الْحِفْظُ إلَى الْمِلْكِ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْيَدِ بِهِ عَادَةً، فَيُقَامُ مَقَامَ الْيَدِ، فَكَانَتْ الْإِضَافَةُ إلَى مَا بِهِ حَقِيقَةُ الْحِفْظِ أَوْلَى إلَّا أَنَّ مُطْلَقَ الْيَدِ لَا يُعْتَبَرُ بَلْ الْيَدُ الْمُسْتَحَقَّةُ بِالْمِلْكِ، وَهَذِهِ يَدٌ مُسْتَحَقَّةٌ بِالْمِلْكِ بِخِلَافِ يَدِ السَّاكِنِ.
وَإِذَا وُجِدَ رَجُلٌ قَتِيلًا فِي دَارِ نَفْسِهِ فَالْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ لِوَرَثَتِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَفِي قَوْلِهِمَا- رَحِمَهُمَا اللَّهُ- لَا شَيْءَ فِيهِ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ- رَحِمَهُمُ اللَّهُ- وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- مِثْلُ قَوْلِهِمْ (وَجْهُ) قَوْلِهِمْ: أَنَّ الْقَتْلَ صَادَفَهُ، وَالدَّارُ مِلْكُهُ، وَإِنَّمَا صَارَ مِلْكَ الْوَرَثَةِ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَالْمَوْتُ لَيْسَ بِقَتْلٍ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ فِعْلُ الْقَاتِلِ، وَلَا صُنْعَ لِأَحَدٍ فِي الْمَوْتِ، بَلْ هُوَ مِنْ صُنْعِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَلَمْ يُقْتَلْ فِي مِلْكِ الْوَرَثَةِ فَلَا سَبِيلَ إلَى إيجَابِ الضَّمَانِ عَلَى الْوَرَثَةِ وَعَوَاقِلهمْ، وَلِأَنَّ وُجُودَهُ قَتِيلًا فِي دَارِ نَفْسِهِ بِمَنْزِلَةِ مُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ بِنَفْسِهِ كَأَنَّهُ قَتَلَ نَفْسَهُ بِنَفْسِهِ فَيَكُونُ هَدَرًا، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْقَسَامَةِ- وَقْتَ ظُهُورِ الْقَتِيلِ، لَا وَقْتَ وُجُودِ الْقَتْلِ بِدَلِيلِ أَنْ مَنْ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ لَا يَدْخُلُ فِي الدِّيَةِ، وَالدَّارُ وَقْتَ ظُهُورِ الْقَتِيلِ لِوَرَثَتِهِ؛ فَكَانَتْ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى عَوَاقِلهمْ تَجِبُ، كَمَا لَوْ وَجَدَ قَتِيلًا فِي دَارِ ابْنِهِ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى عَوَاقِلِهِمْ، وَأَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ لَهُمْ؟ فَكَيْفَ تَجِبُ لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ؟ وَكَذَا عَاقِلَتُهُمْ تَتَحَمَّلُ عَنْهُمْ لَهُمْ أَيْضًا، وَفِيهِ إيجَابٌ لَهُمْ أَيْضًا وَعَلَيْهِمْ، وَهَذَا مُمْتَنِعٌ- فَالْجَوَابُ: مَمْنُوعٌ أَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ لَهُمْ بَلْ لِلْقَتِيلِ؛ لِأَنَّهَا بَدَلُ نَفْسِهِ فَتَكُونُ لَهُ، وَبِدَلِيلِ أَنَّهُ يُجَهَّزُ مِنْهَا، وَتُقْضَى مِنْهَا دُيُونَهُ، وَتُنَفَّذُ مِنْهَا وَصَايَاهُ ثُمَّ مَا فَضَلَ عَنْ حَاجَتِهِ تَسْتَحِقُّهُ وَرَثَتُهُ لِاسْتِغْنَاءِ الْمَيِّتِ عَنْهُ، وَالْوَرَثَةُ أَقْرَبُ النَّاسِ إلَيْهِ وَصَارَ كَمَا لَوْ وُجِدَ الْأَبُ قَتِيلًا فِي دَارِ ابْنِهِ أَوْ فِي بِئْرٍ حَفَرَهَا ابْنُهُ أَلَيْسَ أَنَّهُ تَجِبُ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى الِابْنِ وَعَلَى عَاقِلَتِهِ وَلَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ؛ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا، وَإِنْ اعْتَبَرْنَا وَقْتَ وُجُودِ الْقَتْلِ- فَهُوَ مُمْكِنٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ تَجِبُ عَلَى عَاقِلَتِهِ لِتَقْصِيرِهِمْ فِي حِفْظِ الدَّارِ فَتَجِبُ عَلَيْهِمْ الدِّيَةُ حَقًّا لِلْمَقْتُولِ ثُمَّ تَنْتَقِلُ مِنْهُ إلَى وَرَثَتِهِ عِنْدَ فَرَاغِهِ عَنْ حَاجَتِهِ، وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ إذَا وُجِدَ ابْنُ الرَّجُلَ أَوْ أَخُوهُ قَتِيلًا فِي دَارِهِ أَنَّ عَلَى عَاقِلَتِهِ دِيَةَ ابْنِهِ وَدِيَةَ أَخِيهِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ وَارِثَهُ؛ لِمَا قُلْنَا: إنَّ وُجُودَ الْقَتِيلِ فِي الدَّارِ كَمُبَاشَرَةِ صَاحِبِهَا الْقَتْلَ فَيَلْزَمُ عَاقِلَتُهُ ذَلِكَ لِلْمَقْتُولِ ثُمَّ يَسْتَحِقُّهَا صَاحِبُ الدَّارِ بِالْإِرْثِ، وَلَوْ وُجِدَ مُكَاتَبٌ قَتِيلًا فِي دَار نَفْسِهِ فَدَمُهُ هَدَرٌ؛ لِأَنَّ دَارِهِ فِي وَقْتِ ظُهُورِ الْقَتِيلِ لَيْسَتْ لِوَرَثَتِهِ بَلْ هِيَ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ نَفْسِهِ إلَى أَنْ يُؤَدِّيَ بَدَلَ الْكِتَابَةِ، فَصَارَ كَأَنَّهُ قَتَلَ نَفْسَهُ فَهَدَرَ دَمُهُ رَجُلَانِ كَانَا فِي بَيْتٍ لَيْسَ مَعَهُمَا ثَالِثٌ وُجِدَ أَحَدُهُمَا مَذْبُوحًا قَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَضْمَنُ الْآخَرُ الدِّيَةَ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ: أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ قَتَلَهُ صَاحِبُهُ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ قَتَلَ نَفْسَهُ فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ بِالشَّكِّ، وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ قَتَلَهُ صَاحِبُهُ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَقْتُلُ نَفْسَهُ ظَاهِرًا وَغَالِبًا، وَاحْتِمَالُ خِلَافِ الظَّاهِرِ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا الِاحْتِمَالِ ثَابِتٌ فِي قَتِيلِ الْمَحَلَّةِ وَلَمْ يُعْتَبَرْ.